حركة خارج السرب | حوكمة النزاعات
حوكمة النزاعات
2018-02-05 | 2175 مشاهدة
مقالات


 بقلم د. عزّة سليمان*:باحثة أكاديمية لبنانية 


أَطلقت الأُمم المتّحدة، بعد ما يزيد على ستّة عقود من تأسيسها، برنامجها الاستراتيجيّ للعام 2030، محدِّدةً سبعة عشر هدفاً تسعى من خلالها للتنمية المُستدامة معتمدةً رؤية جديدة لتحقيق السلم والأمن الدوليَّين. وركّزت في الهدف السادس عشر على تحقيق العدالة والسلام ودولة المؤسّسات من خلال الهدف السابع عشر المتمثّل بالشراكات بين مختلف المكوّنات الفاعِلة من قطاعات عامّة وخاصّة ومجتمع مدنيّ.

يُظهِر هذا التوجّه دَوراً رئيساً لمنظّمة اليونيسكو التي تسعى منذ نشأتها في العام 1945 إلى "تشييد عالَم يتّسم بمزيدٍ من الأمان حفاظاً على التنوّع ومن أجل الأجيال المُقبلة". ففي العام 1989، وضعت "منظّمة الأُمم المتّحدة للتربية والعِلم والثقافة" مفهوم ثقافة السلام في مؤتمر اليونسكو الدولي الذي عُقد تحت عنوان "السلام في عقول الرجال". وبعد أن قادت اليونسكو العقد الدولي لثقافة السلام واللّاعنف لأطفال العالَم (2001- 2010)، تُواصِل المنظّمة ريادة العقد الدولي للتقارب بين الثقافات (2013- 2022)، الذي يركِّز على الحوار بين الأديان والحوار بين الثقافات.

وقد أعلنت في استراتيجيّتها المتوسّطة الأجل بين العامَين 2014 و2021 أهدافاً عدّة منها الهدف الخامس المتعلّق بـ"توطيد التعاون الدولي في مجال العلوم من أجل إحلال السلام وتحقيق الاستدامة والاندماج الاجتماعي"، والهدف السادس لـ"دعم التنمية الاجتماعية الشاملة وتعزيز الحوار بين الثقافات بغية تحقيق التقارب بينها ونشر المبادئ الأخلاقية"، بقصد إدارة التحوّلات الاجتماعية من أجل دعم القيَم العالمية للسلام والعدالة وعدم التمييز وحقوق الإنسان، وإدارة النزاعات وفقاً لقيَم التعدّدية والفَهم المُتبادَل. وركَّزت في الهدف الرابع على "تعزيز الروابط بين العلوم والسياسات والمجتمع، والسياسات الأخلاقية والجامِعة، من أجل تحقيق التنمية المُستدامة".

ونشأت على أثر ذلك انعكاسات قانونية عدّة تأثَّرت بخصوصيّات القرن الحالي، العلميّة والتقنيّة، بُنيت على الشراكات واحترام حقوق الإنسان وحقوق البيئة والأُطر الحديثة لتنمية المجتمع والأفراد وإدارة الثروات. وتداخلت فيها ثقافة السلام والحوار مع المؤسّسات القانونية والقضائية التقليدية، وشكَّلت مرحلة جديدة مفصليّة، سواء في القواعد القانونية التي تحكم المؤسّسات أم في وسائل حلّ النزاع، أضافت إلى عِلم القانون مفاهيم تُسجَّل لتطوّرات القرن الماضي؛ إذ تُعتبر مرحلة ما بعد الثورة الصناعية مرحلة أساسية  أُدخل على أثرها العمّال مع أصحاب رأس المال ليكونوا جزءاً من عمليّة اتّخاذ القرار في المؤسّسات الاقتصادية، من خلال دَور النقابات وعقود العمل الجماعية. وأسَّس ذلك مرحلة جديدة في عِلم القانون نشأ خلالها مفهوم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والنظام العام الحمائي للعمّال كضابطٍ لحرّية التعاقد، ما أعاد التوازن إلى العلاقة العَقديّة المتمثّلة في عقد العمل. كما أنّ هذا التطوّر ترك أثره في وسائل حلّ النزاع بين أرباب العمل والعمّال. وقد أُضيفت إلى الهيئات القضائية التقليدية، مرحلة الوساطة، تليها صلاحية حصرية لمجالس العمل التحكيمية بتكوينها الثلاثيّ، وبالاعتماد على مبادئ العدالة والإنصاف بما يضمن حقوق العمّال من دون أن يؤثِّر ذلك على مصلحة أرباب العمل.

من أبرز ما يميّز سمات هذا العصر، تحت تأثير ثقافة السلام والحوار في عمليّة اتّخاذ القرار، نظام الحَوكمة في إدارة القطاعات العامّة والخاصّة والوسائل البديلة لحلّ النزاع.

في الحَوكَمة

إنّ التطوّر الذي طرأ على العلاقات الاقتصادية – الاجتماعية والنظريّات الحديثة في علم الاقتصاد السياسي بعد سقوط الاتّحاد السوفياتي، والأزمات المالية الكبرى التي انعكست انعداماً في العدالة الاجتماعية، والكوارث البيئيّة، ذلك كلّه أدّى إلى البحث عن مفاهيم وآليّات جديدة لإدارة المؤسّسات الاقتصادية عُرفت بالإدارة الرشيدة أو الحَوكمة التشاركية التي أَدخلت في عمليّة اتّخاذ القرار فضلاً عن فئة العمال، أطرافاً أخرى متأثّرة بعمل هذه المؤسّسات. ومن بين هذه الأطراف المجتمع المدني الممثِّل للفئات المهمَّشة والمُناصِر لقضايا البيئة، وهي قوى ضاغطة مؤثِّرة على عمل الشركات وتشكُّل البيئة الزبائنيّة التي تسعى الإدارة لإرضائها.

من هنا نشأ مفهومٌ جديد للحَوكمة، تنادي به التشريعات الحديثة في الأنظمة المتقدّمة، يسعى إلى إدخال أعضاء في مجالس إدارة المنظّمات، الرسميّة أو الخاصّة، من خارج عملها ومستقلّة تماماً عن أصحاب السلطة سواء السياسية أم الاقتصادية. وبذلك تتحوّل المؤسّسات من مساحة للنزاعات بين ذوي المصالح المختلفة إلى مساحة للمُمارسة الديمقراطية تؤخذ فيها مصالح الأطراف المختلفة بعَين الاعتبار في عمليّة اتّخاذ القرار.

هذا التوجّه في عِلم الاقتصاد والإدارة انعكس ظاهراً على إدارة الدولة والمرافق العامّة التي كانت خاضعة لنظامٍ قانوني مستقلّ عن القوانين التجارية، والتي تشكّل مكاناً مفتوحاً للفساد ولسيطرة الفئات الحاكِمة. وأصبحت المؤسّسات العامّة والحكومات المسؤولة عن الإدارات العامّة ورسْم السياسات تسعى إلى شراكة المواطنين ومؤسّسات المجتمع المدني في عمليّة اتّخاذ القرار نظراً لدَورهم المُحتمل في التأثير على سريانه وفعاليّته، ما من شأنه تحقيق الديمقراطية وفقاً لفلسفتها الحديثة. وأصبحت الحَوكمة هي التعبير المُستخدَم في عمليّة إدارة أيّ منظّمة سواء في القطاع الخاصّ أم العامّ، لأنّها تكرِّس في طيّاتها مبادئ أساسيّة تُعتبر الضامنة لتحقيق التنمية المُستدامة. هذه المبادئ تُلخَّص في المُشارَكة في تحديد السياسات وقواعد العمل ومُتابعة تنفيذها، والتوافق والوسطية في إدارة المصالح المختلفة، وحكم القانون وسيادته، وفعاليّة المُحاسبة والمُساءلة، وتعزيز الشفافيّة، ومُكافَحة الفساد، واحترام حقوق الإنسان، والعدالة والمساواة، من ضمن جوّ من الكفاءة والفعاليّة وتطبيق مبادئ المسؤوليّة الاجتماعية.

من هنا تُظهِر الحَوكَمة صورة من صُور الديمقراطية الحديثة، وتنعكس حتّى على مستوى أنظمة الحُكم الديمقراطية وأنواع قوانين الانتخاب التي من شأنها أن تشكِّل وسيلة لمُشارَكة الفئات المختلفة في الحُكم لإدارة شؤونهم وحلّ أزماتهم في المجتمعات المتعدّدة.

في وسائل حلّ النّزاع

على الرّغم من قدم هذه الوسائل قدم المجتمعات البشرية، إلّا أنّه في ظلّ الدولة الحديثة، تُعتبر "الوسائل البديلة لحلّ النزاعات" من الأدوات التي شاعت مؤخّراً في عالَم التجارة والأعمال. فقد عُرِف التحكيم كأحد الوسائل الناجعة، تلجأ إليها الأطراف بعيداً عن السلطات القضائية الرسمية التي تشكِّل مرفقاً عامّاً لتحقيق العدالة من ضمن إطار الدولة الراعية. وفضلاً عن التحكيم، عُرِفت أشكالُ المفاوَضة والوساطة والتوفيق والصلح، وهي آليّات مبنيَّة على الحوار وتقريب وجهات النظر بغية الوصول إلى حلٍّ للنزاع. ونجد أنّ هذه الوسائل تتّسع لتشمل مساحات كانت خارجة عن صلاحيّتها في ظلّ تقلّص دَور الدولة في تقديم الخدمة العامّة. وقد نجح التحكيم في مُنافَسة القضاء الرسميّ بالنسبة إلى قضايا التجارة الدولية، نظراً لما يتمتّع به من سرعة في إنجاز العمل والثقة بالهيئة التي يتمّ اختيار أعضائها أو آليّتها من قبل أصحاب المصلحة، ولاعتماده مبادئ العدالة والإنصاف إذا تمّ هذا الاختيار. إلّا أنّه يشترك مع المحاكِم في أنّه يُصدر حُكماً مُلزِماً للأطراف نظراً لضرورة احترام التزاماتهم العقدية. وتُعتبَر المحاكِم الوطنية السلطة الصالحة لتنفيذ القرارات التحكيمية ومُمارسة الرقابة عليها.

إلّا أنّنا في العقدَين الأخيرَين نلاحظ  أنّ الوساطة بدأت تفرض نفسها كوسيلة أساسية نظراً لاحترامها القيَم التي تسعى منظّمة الأُمم المتّحدة إلى نشرها وهي ثقافة الحوار والسلام.

فالوساطة هي مرحلة متقدّمة من التفاوض يقوم بها طرفٌ ثالث محايد أو الـ " وسيط "، يعمل على تسهيل الحوار بين الطرفَين المتنازعَين، وعلى اقتراح حلول بديلة من دون فرض أيٍّ منها عليهما. ولا يجوز للوسيط اتّخاد قرار بات في أساس النزاع بخلاف القضاء أو التحكيم، بل إنّ دَوره ينحصر في محاولة تقريب وجهات النظر، ويسعى إلى تقليص الهوّة بينها، بحيث يُسهِم كلٌّ من طرفَيْ النزاع بإيجاد الحلّ المناسب من خلال الحوار.

العدالة الانتقاليّة

إذا كانت الوسائل المذكورة هي أدوات تُستخدَم لإيجاد حلول في النزاعات بين الأفراد، فقد ظهر مفهوم العدالة الانتقالية كشكلٍ من أشكال الآليّات التي تعبر بالمجتمعات التي عاشت مرحلة من النزاع أو الظلم إلى مرحلة السلم والعدالة. وتشكِّل "هيئة الحقيقة والكرامة" في تونس، التي أُسِّست في القانون رقم 53/ 2013، نموذجاً لإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها، في مرحلة ما بعد الثورة. وتسعى من خلال التحكيم والمُصالَحة إلى تحقيق العدالة من أجل الوصول إلى مرحلة السلم بين مختلف مكوّنات المجتمع التونسيّ. والعدالة الانتقالية وفقاً للمادّة الأولى من هذا القانون هي "مسار متكامل من الآليّات والوسائل المُعتمَدة لفهم ماضي انتهاكات حقوق الإنسان ومعالجتها بكشف حقيقتها ومُساءلة المسؤولين عنها ومحاسبتهم، وجبر ضرر الضحايا وردّ الاعتبار لهم بما يحقِّق المُصالَحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثِّقها ويُرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظامٍ ديمقراطيّ يُسهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان".

وتحتاج هذه الآلية المَبنيَّة على الحوار والمُساءَلة والمُحاسَبة والشفافيّة والحياديّة والتنمية المُستدامَة، إلى إرادة سياسية وشعبية للانتقال بالمجتمع إلى مرحلة ما بعد النزاع بطريقة سلمية سلسة، وهذا ما لم يستطع المجتمع اللّبناني تكريسه بعد الحرب الأهلية وتمّت الاستعاضة عنه بقانون العفو العامّ عن جرائم مرحلة الحرب. هذا الواقع لم يحقِّق استدامة السلم، إذ يتخوّف اللبنانيّون بعد أكثر من ربع قرن على انتهاء الحرب، من إعادة إنتاجها بطُرق مختلفة، نظراً لانتفاء شعور الضحايا بالعدالة لأيّ فئة انتموا.

إنّ تخطّي "الأزمات الحالية الناتجة عن التقدّم العلميّ والتكنولوجيا، والضغط الديمقراطيّ، وتسارع التوسّع الحضري، وتزايد النداءات الرامية إلى تحقيق العدالة والتلاحم، ودَور الشباب بوصفهم عوامل للتغيير، وأشكال الاتّصال الجديدة، ومُشارَكة المواطنين في تعزيز الديمقراطية"، وفقاً لتوصيف اليونيسكو، يتطلّب نشر ثقافة جديدة في المجتمعات تُبنى على الحوار والتعاون. ولكون هذه الأزمات أدّت إلى تبعات أخلاقية، تَعتَمِد الوسائل الحديثة لإيجاد حلول للأزمات على الأخلاقيات بشكلٍ أساس وليس على قواعد قانونية مكتوبة أو مكرَّسة صادرة عن السلطات العامّة. وهذا المعيار يشكِّل أيضاً شكلاً من أشكال التغيير الذي طرأ على القواعد وأُسُسِها، بحيث يتمّ الارتكاز على القيَم التي تحكم الشعوب والمجموعات الإنسانيّة، والمبنيَّة على الإرث الثقافي والحضاري وليس على التشريع أو ما يُعرف بالقانون الوضعي فقط، سواء المحلّي أم الدوليّ.

نشر في موقع مؤسسة الفكر العربي .